بيان صحافي
في رائعته الخالدة «لا شيء يعجبني» يقول الشاعر الكبير محمود درويش (1941/2008) «لا شيئ يعجبني، يقول مسافر في الباص: لا الراديو، ولا صحف الصباح، ولا القلاع على التلال… أريد أن أبكي! يقول السائق: انتظر الوصول إلى المحطة، وابكِ وحدك ما استطعت…»
ربما تكون مصادفة مثمرة، أن تشكّل هذه الفرضية الشعرية المتماسكة، برؤيتها الاستشرافية الملفتة، ومبضعها النقدي الموغل في العمق، لوجهة نظر المجتمع بغالبية تبايناته من الحياة التي تحيطه، عبارة عن معادل موضوعي لروح الحكاية الشعبية التي أراد مسلسل «دوار شمالي» (مسار إجباري/ كتابة حازم سليمان وإخراج عامر فهد وإنتاج إياد الخزوز، وبطولة: عبد المنعم عمايري، أمل بوشوشة، أنس طيارة، نانسي خوري، أحمد الأحمد، محمد حداقي، فايز قزق، كارمن لبّس، هبة نور، علي كريّم، وائل زيدان، طارق مرعشلي، جمال العلي، عبير شمس الدين، مريم علي، علا باشا، مروة الأطرش، رنا كرم، وآخرون) تقديمها بمقترح روائي تلفزيوني، ندّعي أنه في غاية التشويق.
إذ يتكئ في عنوانه العريض على اسم أطول رحلة لميكرو باص يجوب شوارع دمشق كلّ يوم، لعلّه يقبض بإحكام وتكثيف عالٍ، على جميع تناقضات المدينة المنهكة، وتجاذباتها، وألوان طيفها المتعددة، من ناحية النماذج الاجتماعية المتباينة، والأنماط الحياتية المختلفة، والتوجهات السياسية المتناحرة، وفق منطق حياتي سويّ، أو إجرامي عندما تستدعي الضرورة الدرامية القائمة على الصراع.
كلّ ذلك جعلنا نختار هذا العنوان لعلّ المسلسل يكون بمثابة شاهد، وعين راصدة لحقبة زمنية غنيّة، وبيئة اجتماعية خصبة، نغوص في أعماقها، ثم نلتف على كواليسها الخلفية من خلال حيّ «ماورد» الدمشقي الشعبي، بمتخيّل حكائي بذلنا ما بوسعنا ليكون جذاباً. هكذا، سيكون المشاهد العربي مع كناية عن رحلة باص يجول المدينة من أقصاها لأقصاها، بدءاً من أفقر أحيائها وأبسطها، مروراً بمناطقها المتوسطة، وصولاً إلى واجهاتها المترفة بالرقي، وشوارعها المتحضّرة.
وما الذي يمنع المسلسل التلفزوني من البناء، وفق مخططّات لم يعتد عليها المشاهد، والاستعارة من أسماء ألفها، وستشكّل صوغاً رمزياً يشتبك مع حياته الواقعية وقضاياه المجتمعية؟!
لذا سيجرّب «دوّار شمالي» تقديم شخوصه وفق بنية بصرية هادئة. وسبك قصصي فني، يكون عبارة عن دفعة متعاقبة من المشاعر والأحاسيس، بمجرد تلقفّها ستصبح اللعبة ملكه الحصري وهو القاضي والحكم فيها. خاصة بعد أن يفكك خيوطها، فإذا بها تأخذه إلى تسعينيات القرن الماضي، حيث تدور الحكاية، وتعود بفلاش باك تقليدي إلى الثمانينات من القرن ذاته، لتنبش في أصول الخلافات، وتاريخ الشخصيات التي تركّب القصّة، ومن ثم تختتم على مقربة من زمننا الحاضر.
ويمكن القول بثقة بأن: جوهر صراع العمل ينطلق من الحالة الإنسانية البحتة، ويقوم على مواجهات أصحاب المطامع بأهل المبادئ، مع تشابكات وتوليفات وتداخلات منطقية بين الشخصيات، من خلال صلة القربى، والزيجات، أو تقاطع المصالح وتباعدها.
أما قوام الحكاية فيتلخّص في سيرة رجل فاسد يقرر السيطرة على حارة «ماورد» لما لها من أهمية جغرافية كبيرة، يمكّن أن تحيل عقاراتها إلى ثروة طائلة متمددة مع تعاقب الزمن، لكن عندما يصطدم بقوّة ضاربة في الحي تقف بمواجهته بمنتهى الصلابة، يقرر الاعتماد على ابن أحد تجار الشام، لأن والده من مالكي هذا الحي الأساسيين، فيحيله إلى قاتل متسلسل يميط عثرات الرجل الفاسد تباعاً، لنصل إلى ذروة سريعة نظنّ أن النهاية وقد أزفت، لكّنها لن تكون تلك الأحداث المفصلية سوى انعطافة درامية حادة، توزّع الورق من جديد بعد خلطه، لتبدأ اللعبة على الأرض يا حكم! يعود بعدها القاتل بذريعة السيطرة على البناء الذي كان يخفي جرائمه فيه، وقد صار قاب قوسين من تكشّفها جميعاً.
وبالتوازي سيبحث عن الانتقام من الرجل الفاسد الذي أوصله إلى هذا المكان، لكّن المآلات ربما تسير عكس التوقعات بعدما تمددت شبكة الفساد من جديد، وعادت نحو سطوتها الصارمة، فيما ينحو العمل باتجاه تنويعات مدروسة وينسج تطوراته وفق التصعيد المطلوب، لنلاحق مصير شخصية نافذة ورثت عن أبيها «باب جهنّم» الحدودي وراحت تتاجر فيه، هنا نفتح ملفات استقصائية بطريقة درامية ساخنة، ونتقفى أثر معاناة هذه الشخصية الإنسانية التي تلامس جوهر أمومتها الضائعة.
وأخيراً سنصل «دوار شمالي» إلى نهاية مساره الإجباري، بعد 30 حلفة تلفزيونية صنعت وفق مزاج رمضاني نعتقد بأنه سيثير اهتمام المشاهد ويحفّز شغفه!